• في البدء .. أنا
  • حديث بيننا..
  • وحدثوا عني ..
  • قلته على ورق ..
  • كلام الصورة

  • عدد التعليقات:1 | 2,729 قراءة للموضوع | فضاء: سرديات | Print This Post |

    “الدرس” .. في التــابع والمتبـوع

    الكاتب: - يوم: 16 March, 2008

    (1)
    أكثر شئ يضايقه ، حينما تبدأ زوجته بعقد مقارنة بينه وبين زملاء دراسته في الجامعة ، تقول : تأمل .. فلان أصبح مسؤلا كبيرا في الدائرة الفلانية ، وأنظر … فلان غدا صاحب منصب رفيع في تلك المؤسسة . تفعل ذلك وهي تضع السفرة ، وتفعلـه وهي ترفعها ، وحينما تشرب هي وإياه الشاهي في غرفة المعيشة ، أو عندما يخرجان هم والأطفال في السيارة لغرض ما . وهي غالبا ما تختم حديثها قائلة : (أنا أعلم أنك لست أقل منهم قدرة وكفاءة .. أليس ذلك عجيبا ..؟) .
    كثيرا ما يرد على تساؤلاتها بإبتسامة ، وقد يقول أحيانا ، حينما يراها مهتمة جدا : ألسنا نعيش مثلهم وأحسن .. وهل قصرت عليك بشئ يا حبيبتي ..؟ تستحي وتقول : لا .. فقط أنا أتعجب ، ألا ترى أن هناك سر ..؟ ربما .. يقول .

    في واقع ا��أمر هي تعرف ما تسميه (سرا) ، لكنها لا تجرؤ أن تقول لزوجها ، إفعل مثلهم لتصل ، رغم أنها تعيش في أعماقها صراعا بين ما تراه من قدرات زوجها ، وبين القيم المثاليات التي يتمسك بها ، وترى أنها تحول بينه وبين ما تطمح إليه من أهداف .

    رغم أنها تعلم أنه لا يقبل المناقشة في هذا الموضوع ، ويعده مسألة مفروغ منها ، إلا أنها لا تفتأ تلمح له ، من خلال ضرب الأمثال ، أن موافقة ضرب من المستحيل ، كأن تقول : (من لا يحني رأسه تقتلعه العاصفة) ، أو (اليد التي لا تقدر على كسرها قبلها) ، وغيرها من ذلك الرصيد الضخم من الأمثال الشعبية ، مثل (الموت مع الجماعة رحمة) .

    هي تعلم أن كل هذه القصص والأمثال لا تؤثر فيه ، بقدر ما تزعجه ، وأحيانا تثيره ، عندما تذكر له بعض أصحابه القريبين ، الذين شاركوه في يوم من الأيام مبادؤه ، أو ما تسميه هي مثالياته وأحلامه ، ثم تنازلوا عنها ، أو عن بضعها ، وبقى هو لم يتغير ، حتى أطلق عليه أحد أقاربه تندرا : (الحرس القديم) .

    حدثها مرة ، فقال : هل تعلمين كم من البطون الجائعة ، والاجساد العارية ، سوف يسد رمقها ، ويكسى عريها لو أستؤصل الفساد ، ووضعت الأموال في مكانها الصحيح ؟ . صاحبي ، صاحب المبادئ ، أو الذي كنت أظنه صاحب مبدأ ، يقول : أنت لا تستطيع أن تواجه التيار وحدك .. لا تركب رأسك .. لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة … إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . فجأة يا زهراء ، تحول صاحبي ، ذلك (الأصولي الشرس) ، الذي يشن في جلساتنا الخاصة ، الحملات الشعواء على الفساد والمحسوبية ، وصروح الربا ، والإعلام الفاسد ، والفضائيات الداعرة ، إلى حكيم .. إلى حمامة وديعة . يقول : علينا أن نتدرج في الخطاب ، حتى نصل إلى موقع القرار ، الذي نستطيع من خلالــه أن نمنــع

    ( 2 )

    الفساد .. إن الحكمة تتطلب ذلك . الحكمة يا فضيلة (الشيخ) … الحكمة أيها (الداعية) الكبير .. أم المنصب الذي (يسيل لعابك) ، من أجله .. (…) ؟ لا .. لا .. هذا غير صحيح .. سأصعد الأمر ، وليكن ما يكون .

    ردت عليه محتجـة : لمـاذا تركب رأسك ، لماذا أنت عنيد .. هل أنت وكيل آدم على ذريته . هل تريد أن تدمر نفسك ، وتدمرنا معك ، مثلما حرمت نفسك من الفرص الجيدة والترقيات .

    - هل تقبلين بالفساد ، وأكل الأموال بالباطل ..؟

    - ما شأننا نحن .؟ ألست تقول إن فلان وفلان من أكثر من عرفت نزاهة وإخلاصا ..؟ لماذا لا نسمع لهم صوتا ..؟ وأنظر فلان وعلان ، الذين طالما تطعمت بالحديث عن التزامهم وتضحياتهم ، وأقحمت ذكرهم في أمسياتنا . أين صـاروا … وأين أصبحـت أنت ..؟ وجاهة .. وأموال ، أو (بزنس وبرستيج) ، على حد تعبيرك .

    - هذا عرض قريب ، وسفر قاصد يا زهراء .. والحرة تموت ولا تأكل بثدييها ، وما عند الله خير وأبقى ..

    - يا أبا يمامه لم يصل الأمر بعد إلى هذا الحد .. وأصدقك القول أنني منذ تلك الليلة الهادئة المقمرة ، قبل عدة سنوات ، حينما حدثتني ، ونحن في الطريق إلى مكة ، عن أبى ذر الغفاري رضي الله عنه ، بذلك الشغف الممزوج بالشجن ، وأنا أحس أنك تحلق في سماء لا أرض تحتها .. لكني لم أجرو على مناقشتك ، وتركتك في أحلامك الوردية . وأصدقك القول كذلك ، أنني أحيانــا أشـك بأنك واقعي . لماذا يا أبا يمامه تريد أن تكون رأسا تناطح ..؟ لماذا .. لا ..

    في هذا اللحظة دخل بشير ، يترنم بكلام ويتضاحك ، فقطع كلامها . قال بشير ، وهو الإبن الذي يدرس في الصف الثالث ابتدائي :

    - اليوم يا أبي قص المدرس علينا قصة جميلة جدا .

    - ما هي القصة يا بشير .؟ سأله باهتمام .

    - قصة الفلاح وإبنه يا أبى ، ألا تعرفها ..؟ ثم أخذ يترنم : (لا تكن رأسا .. لا تكن رأسا دن .. دن ..) .

    ( 3 )

    سكت ولم يجبه . لكن بشير واصل حديثه :

    - قال الفلاح يا أبى لإبنه : (يابني لا تكن رأسا فإن الرأس كثير الآفات) . ومضى يروى ما سمعه من أستاذه بسرد طفولي عذب .

    زهراء شعرت بإرتياح ، أن جاءت حكاية الأستاذ متوافقة في جانب منها مع ما كانت تناقش زوجها فيه ، لكنها لم تشأ أن تصرح له بذلك ، أو أن تقول : أرأيت ، او أنظر .. الناس كلهم رأيهم هكذا . كان بشير يتحدث ، وتند منه بين حين وآخر ضحكة إعجاب بالقصة . غمغم وقال بصوت لا يكاد يسمع :

    - (بئسما علمك استاذك .. لا تكن رأسا .. ماذا تكون إذن .. ذنبا ..؟) . بشير ، قال يخاطبه :

    - يقول المدرس لا تكن رأسا ، ألم يعلمكم ماذا تكونون ..؟

    فوجئ الطفل بالسؤال فتوقف عن الكلام . وصار ينقل نظراته بين أبيه وأمه ، التي هي كذلك لم تتوقع سؤالا كهذا . فأغتنم فرصة حيرة الطفل ، وإرتباك أمه ، ليلقي سؤاله المقصود :

    - هل يعني أن تكون ذنبا ..؟

    شعر الطفل بالخجل ، وأحس أن العبارة جارحة نوعا ما ، وفيها خروج عن اللياقة التي رباهم عليها ، وإن كانت لا تخلو من السخرية المضحكة . أدركت أمه ما يدور في ذهنه فأرادات أن تنقذ الموقف ، فقالت :

    - أبوك يعني أن الذنب ، أي الذيل لا قيمة له .

    نظر إلى وجه أبيه مستفهما ، فرد عليه بابتسامة ، فانطلقت منه ضحكة مدوية ، كأنما أعجبه الاستنتاج الذي توصل إليه أبوه ، وتطوعت أمه بتوضيحه . توقف عن الضحك وقال مجيبا على سؤال أبيه :

    - أكيد لا .. ولم أفكر ، ولا أحد من الطلاب بهذا السؤال . المدرس تحدث فقط عن مشاكل الرأس ، كما حكى ذلك الفلاح لإبنه .

    - إذن هو لم يتحدث عن معنى أن يكون الإنسان ذنبا ، بدل أن يكون رأسا .. أقصد ، أنه لم يذكر أن الفلاح قال لابنه شيئا حول ذلك ..؟ سأله . قال بشير :

    - لا .

    - وأنت يا بشير إذا كان الرأس كثير الآفات ، هل تحب أن تكون ذنبا ..؟

    ( 4 )

    - لا .. طبعا ..

    - ولا ذنب حصان يا عزيزي ..؟

    قاطعته زوجته منزعجة : أبو يمامه .. ما هذا النقاش ..؟ الطفل لا يعي ما تقول .. والموضوع كله لا يعدو قصة قصها المعلم من باب الفكاهة لا غير ؟

    - هل تعتقدين ذلك ..؟ ما رأيك يا بشير .. هل تريد أن تكون ذنب حصان ..؟

    لم يجب ، وإنما ظل ينظر إلى أبيه تارة والى أمه تارة أخرى .

    - الحصان جميل أليس كذلك يا بشير ؟ هز رأسه بالإيجاب . أنت رأيته ..؟ قـال الطفل نعم . رأسه وذنبه .. كلاهما جميل .. أليس كذلك ؟ نعم . قال : أسألك .. وقل لي بصراحة .. أيهما تحب أكثر ..؟ أجاب بشير بلا تردد : الرأس . سحب رأسه إليه ، وأخذ يداعبه بمرح ، ويقول :

    - ممتاز يا بشير .. ما رأيك لو نأخذ الليلة درسا عن الرأس والذنب . ضحك بشير .. وأعلن موافقته . الدرس للجميع .. لي ولأمك ولك ولإخوانك .. جيد ..؟ هز رأسه . – بعد المغرب إن شاء الله ، سنذهب جميعا إلى المكتبة ، لنشترى المواد الضرورية للدرس ونعود إلى البيت ونجهزها ، ثم نأخذ درسنا بعد الرجوع من صلاة العشاء .

    عادوا من المكتبة ، بعد أن اشتروا صورا لاصقة ، لحيوانات مختلفة وبحجم واحد ، وأشتروا معها كذلك ، لوحا أبيضا . بعد صلاة العشاء اجتمع بشير وأمه وإخوته . قال والده :

    - قبل أن نبدأ الدرس ، سنقوم بقص كل صورة إلى ثلاثة أجزاء . الجزء الأول يشمل رأس الحيوان فقط ، والجزء الثاني الذنب فقط ، أما الجزء الثالث فهو بقية جسم الحيوان . تذكروا نريد الرأس لوحده ، والذنب لوحده من كل صورة .. الدقة مطلوبة . أنهمك الجميع بعملية القص ، أما هو وزهراء ، فقد تولوا تعليق اللوح على الجدار . كانت تقول له :

    - ماذا تريد أن تصنع ..؟

    - يرد بشئ من الدعابة : سأشرح فلسفتي الكبرى : (الرأس والذنب .. إشكالية المكان : قراءة في التابع والمتبوع) .

    لم تعجبها دعابته الثقيلة ، فقالت بضجر :

    - ليتك أشغلت وقت هؤلاء الأطفال بشئ يفيدهم .

    ( 5 )

    إستمر في مزاحه قائلا :

    - شئ يفيدهم …؟ ستعرفين أهمية ما أفعل الآن ، حينما أخرج هذه (الفلسفة) في كتاب خطير يحمل نفس العنوان ، بالإضافة إلى عنـوان فرعي هو : (ما بعد البنيويـة والتقويضية .. إحتضار الرأس وسمو الذنب) .

    - ألا تكف عن هذا المزاح الثقيل ..؟

    - لا يا زهراء .. تخيلي إحتفاء المنتديات العلمية ، والصفحات الثقافية بي وبكتابي .. سأكون مشهورا كما تحبين .. صورتي ستظهر بشكل يومي في الصحف ، إلى جانب صور جاك دريدا ، ورولان بارت ، وميشيل فوكو .. وسأدعى لحضور مؤتمرات في الخارج ..

    طبعا سأخذك معي .

    - قاطعته : أقول .. (عفوا يا عزيزي .. دلة القهوة على النار .. وأخشى أن تفوح .. بعد إذنك) .

    - جاهزون ..؟ سألهم .

    - ردوا بصوت واحد : جاهزون .

    ضم أجزاء الصور إليه وخلطها ، ثم قال : سأثبت جسم الحيوان على اللوح ، ثم أختار من الأجزاء الأخرى رأسا وذنبا ، ثم نرى ما الذي يحدث . وقع الاختيار على جسم زرافة ، وأختار رأس بعير وذنبه فألصقهما على الصورة ، مكان رأس الزرافة وذنبها .. وهنا صاح الأطفال :

    - .. لا .. لا .. هذا رأس بعير ..

    - والذنب ..؟ سألهم .

    فترددوا ، ولم يجزموا بشئ . رفع رأس البعير ، ووضع رأس الزرافة مكانه .. فصاحوا تأييدا للوضع الصحيح . رفع رأس الزرافة مرة أخـرى ووضـع مكانه رأس حمار ، ثم كلب .. وحيوانات أخرى عدة مرات ، وكانوا يصيحون في كل مرة ، أن الوضع غير طبيعي . أعاد راس الزرافة ، ورفع ذنب البعير ، ووضع ذنب الزرافة مكانه .

    فقال بشير ، وإخوانه بتعجب :

    - أوووه … لم يتغير شيئا كثيرا ، وأضافت أروى : أعتقد أن الزرافة يمكن أن تعيش بذنب البعير ، ولن يلاحظ أحد ذلك .

    - قال والدها : هل توافقون على ما تقوله أروى ..؟ فصاحوا جميعهم تأييدا لقولها .

    ( 6 )

    - قال : ما رأيكم لو نجرب غير ذنب البعير مع الزرافة …؟

    وضع أذناب عدة حيوانات مكان ذنب الزرافة ، وفي كل مرة يسألهم كان جوابهم واحد :

    - لا توجد مشكلة .

    استمر يغير رؤوس الحيوانات وأذنابها ، وفي كل مرة يضع رأسا بدل الرأس الحقيقي ، كان يسمع صيحات الاحتجاج وأصوات الاستهجان : أووه .. لا .. لا … ما يصلح ، أما حينما يغير في الأذناب ، فإنه يسمع الضحكات وأصوات الدعابة والسخرية .. مثل : (الذنب ما عنده مشكلة في أي مكان يكون) ، أو (الذنب أحلى له يكون مع الحمار) ، وهكذا ..

    بعد أن أنهى إستعراض جميع الصور التي معه ، قال :

    - والآن انتهى الجزء الأول من الدرس ، وبقى الجزء الثاني والأخير . الجزء الثاني عبارة عن السؤال التالي :

    - ما هي النتيجة التي خرجنا بها من قيامنا بخلط أجزاء الحيوانات ؟

    - قالت أروى : أنا فهمت أن الرأس لابد أن يكون رأسا .. أعنى من الصعب أن نلعب بالرأس ونضعه في مكان غير مكانه .

    - ممتاز يأ أروى .. ممتاز .

    - أنا فهمت أن الذنب يمكن أن يكون في أي مكان يوضع فيه ، ولا يواجه أي مشكلة

    - ممتاز .. رائع يا بشير .. رائع .

    كانت البنت الكبرى يمامه مستغرقة في ضحك ذي مغزى ، أما زوجته فقد ارتسمت إبتسامة عريضة على شفتيها . رفع بصره إليهما فقال ، وكأنه يؤكد إنتصاره ، وهو يجمع قصاصات الصور :

    - يا ويلك يا جاك دريدا ، جئتك بما وراء التقويضيه .. بإشكالية الرأس والذنب . ثم أنفجر ضاحكا ، ولا شعوريا بدأ يدندن :

    - (لا تكن رأسا .. لا تكن رأسا) ، ولم يتوقف إلا حينما دوت في أذنه صرخة بشير :

    - بابا .. ما هذا ..؟

    - همس في سره : الحمد لله .. الدرس أثمر ….

    عدد التعليقات:1 | 2,729 قراءة للموضوع | فضاء: سرديات | Print This Post |

    آثار على الدرب..

    1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      راقت لي هذه القصة كثيراً..
      الكل جسد والرأس خيرٌ من الذنب..
      نحتاج إلى مثل هذه القصص التي تربي فينا الكثير من القيم
      بارك الله فيكم..

    اترك أثــراً..